في خلق الله لهذه المتضادات المتقابلات تبيين قدرة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى أن يخلق ما يشاء، وله في ذلك الحكمة، يقول: [وذلك] أي: وجود هذه المتناقضات والمتضادات [من أدل دليل عَلَى كمال قدرته وعزته وملكه وسلطانه، فإنه خلق هذه المتضادات وقابل بعضها ببعض، وجعلها محالَّ تصرفه وتدبيره]، فيصرفها ويدبرها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فيسلط إبليس عَلَى الكافرين، فيؤزهم أزاً، ويدفعهم إِلَى الشر، ويسلطه عَلَى المؤمنين فيرفضونه، ويعصونه، فترتفع درجاتهم عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ويسلط العقرب أو الحية، فتلدغ الفاجر فيكون ذلك عقوبةً ونكالاً وكفاً لشره عن الناس، ويسلطه عَلَى المؤمن، فيكون في ذلك رفعاً لدرجته وخيراً وطهوراً له من ذنوبه.. وهكذا، فهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعلها محالَّ تدبيره، يدبر الخير أو الشر كما يشاء عن طريق هذه المحالَّ.
وعندنا أمران أمر بهما الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى إبليس":
الأمر الأول: أن يسجد مع الملائكة، وذلك عند ما قال الله للملائكة: ((اسْجُدُوا لِآدَمَ)) [البقرة:34] وهذا الأمر يشمل إبليس أيضاً، فقوله: "اسْجُدُ" يقابله عندنا فعل آخر، وهو: ((وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم)) [الإسراء:64] الآية فهنا "اسجد" وهنا "استفزز"، فالأمر بالسجود أمر شرعي، لكنه لما قال له: ((وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ)) [الإسراء:64] فهذه الأوامر كونية، فالله تَعَالَى كوناً وقدراً قضى بذلك وقدَّره.
[وليس أمراً بفعل ذلك] أي: أذن لك بذلك كوناً وقدراً، لكن النهاية أنت ومن اتبعك مصيركم إِلَى النار، وأما الأمر بالسجود الذي أمر الله تَعَالَى به المؤمنين وهو الأمر الشرعي، فيجب أن يطاع، لا أنه مجرد مشيئة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ولكن إذلال الشيطان لبني آدم هذا بمشيئة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ثُمَّ يقول: [فخلو الوجود عن بعضها بالكلية، تعطيل لحكمته، وكمال تصرفه وتدبير ملكه] فلو خلا الوجود عن بعض هذه بالكلية، كما لو خلا من الليل فكان كله نهاراً، أو خلا من الأدواء وكان الوجود كله شفاءً وعافيةً، أو خلا من الموت فكان الوجود كله حياةً، أو خلا من القبح فكان الوجود كله حُسْناً، أو خلا من الشر فكان كله خيراً؛ لكان في ذلك تعطيل لحكمته ولكمال تصرفه وتدبير ملكه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن وجود هذه المتناقضات والمتضادات فيها تحقيق لحكمته ولكمال تصرفه، فلنتدبر ذلك ونتأمله.